مَن مِنَّا لم يسمع بمدينة النَّجف الأشرف، حيث الأفئدة تتعلَّق بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)؟! ومن الأماكن الأكثر أهميَّة في هذه المدينة، والّتي لها شهرة كبيرة، هي مقبرة وادي السَّلام، أوسع وأكبر مقبرة في العالم، ناهيك بأنَّ مدينة النَّجف تكتسب قدسيّة عظيمة لدى العالم، لوجود مرقد الإمام عليّ(ع) فيها، ومراقد الأنبياء آدم ونوح وهود وصالح، وعدد من المقامات والمساجد والمشاهد المباركة فيها.
وفي لمحةٍ موجزة، تقع مدينة النَّجف على حافة الهضبة الغربيَّة جنوب العاصمة بغداد، وعلى بعد 161 كلم عنها، وتبلغ مساحتها نحو 1338كم2، وترتفع 70م فوق سطح البحر، ويحدّها من الشّمال والشّمال الشّرقي مدينة كربلاء، الّتي تبعد عنها 80 كم، ومن الجنوب والغرب منخفض بحر النَّجف، ومن الشّرق مدينة الكوفة الّتي تبعد عنها نحو 10كم.
ومنذ ألف سنةٍ وأكثر، يجهد المسلمون الشّيعة في نقل جثث موتاهم ورفاتهم من شتّى أنحاء العالم إلى مقبرة وادي السَّلام، كما أنَّ هناك روايات تؤكِّد أنَّ وادي السَّلام بقعة من بقاع جنَّة عدن، وأنَّ أرواح المؤمنين تجتمع إلى بعضها البعض في هذا الوادي.
وهذه المقبرة دائمة التوسّع، وهي تضمُّ بين جنباتها ملوكاً ورؤساء ووزراء وفقراء وعلماء، وتحتوي ـ بحسب بعض التَّقديرات ـ على ما يقارب ستَّة ملايين قبر، وتمَّ إدراجها ضمن قائمة التّراث العالمي.. ورغم أنَّ المدفونين من المسلمين الشِّيعة، إلا أنَّك تجد أيضاً قبوراً لسنّة عرب ومسيحيِّين وأجانب.
توجَّهنا بدايةً إلى حملة الخليل المعروفة بتنظيم أمور الدَّفن في وادي السَّلام بما يخصّ اللّبنانيّين. وقد أوضح مسؤولٌ في الحملة لموقع "بيّنات"، أنَّ الدّفن يكون عبر التواصل مع مكاتب الدّفن الكثيرة في النّجف، وأنّ الحملة تتعامل منذ زمن مع السيّد القزويني هناك.. ويشير المسؤول إلى أنَّ العراقيّين هناك لديهم طريقتهم الخاصَّة بعمارة القبور، فإمّا يكون القبر على طريقة مغارة وتوضع حجارة على الجنب، أو سرداب، وهو عبارة عن غرفة كبيرة طولها 8 أمتار وعرضها 5 أمتار، والسِّرداب يكون أحياناً على مساحة طابقين.
وتابع المسوؤل في حملة الخليل بأنّهم يواجهون مشكلة في هذا الأمر، وبخاصَّة إذا كان المتوفّى امرأة، ما يضطرّ غير محارمها هناك إلى المعاونة في دفنها، وأضاف أنَّه كان قد وجَّه سؤالاً إلى سماحة السيِّد علي السيستاني حول الدَّفن في مقبرة وادي السَّلام، فأجاب: "لو كان الأمر يتعلَّق بي لدفنت في بلدي، فروح المؤمن تذهب إلى وادي السَّلام، والمبالغ الّتي تُصرف في سبيل ذلك، يمكن توزيعها على الفقراء والأولاد".
ولفت المسؤول في الحملة إلى أنَّ السَّفارة العراقيَّة في لبنان ما زالت تعتمد السِّعر المتداول نفسه أيّام النّظام السّابق، فأوراق المتوفّى تأخذ يومين أو ثلاثة أيّام، إضافةً إلى مبلغ 3400 دولار أميركي، والمصاريف كاملة تصل إلى حدِّ 8 آلاف دولار.
وأشار إلى أنَّ حركة الإقبال على الدَّفن في وادي السَّلام قد خفَّت حركتها هذه الأيّام، بالنّظر إلى التّكلفة المرتفعة للنّقل.
وختم بأنهم في الحملة ينصحون أهل المتوفَّى بدفنه في بلده، ليستطيعوا زيارته في المناسبات وفي أيّ وقت، بينما يختلف الأمر في النَّجف، فنقل الجثمان وانتظار الإجراءات يضطرّنا إلى وضع الميت في البرّاد، وإذا كانت المتوفّاة من النّساء، فهناك حرج كبير في التّعامل مع جثمانها.
من جهته، قال الشَّيخ فيصل الكاظمي لموقع بيِّنات، إنَّه قد ورد الاستحباب في الرَّسائل العمليَّة وغيرها بالدَّفن إلى جنب مرقد الإمام عليّ(ع)، وتابع بأنَّ العراقيِّين لا يدفنون موتاهم إلا في وادي السَّلام، إذ ترى بعض المدن مثل البصرة وبغداد وغيرهما، خاليةً من أيِّ قبر، لأنَّهم يدفنون الموتى جميعاً في النّجف.
وأضاف سماحته بأنَّ تجهيز الميت وغسله وتكفينه من المهن المربحة والرّائجة في النَّجف الأشرف، حتى بات لكلِّ عائلةٍ وعشيرةٍ دفَّانة معيَّنون، فآل فلان مثلاً من دفَّانة العشيرة الفلانيَّة، وتهتمّ بدفن موتاهم من جيلٍ إلى جيل.. لذا ترى مكاتب الدَّفن والغسل منتشرة بشكل واسع هناك.
وبالعودة إلى ما يُقال ويتردَّد عن استحباب الدَّفن في تلك المقبرة المقدَّسة، فقد سُئِل سماحة العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض) عن ذلك، وكان السّؤال على الشَّكل التّالي: "هل هناك نصٌّ ثابتٌ عن أحد الأئمَّة على استحباب الدَّفن في وادي السَّلام؟ وهل يخفِّف ذلك من عذاب البرزخ؟"، فأجاب سماحته:
"هناك روايات عن حشر أرواح المؤمنين في وادي السَّلام، كما في الكافي والتّهذيب، عن الإمام الصَّادق(ع): قلت له: إنَّ أخي ببغداد وأخاف أن يموت بها، قال: "ما تبالي فيما مات، إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السّلام"، قال: "وهو ظهر الكوفة، كأنِّي بهم حلقٌ حلق قعوداً يتحدَّثون"، وروي أنَّ أمير المؤمنين(ع) كان يأتي النَّجف ويقول: "وادي السَّلام ومجمع أرواح المؤمنين، ونِعم المضجع للمؤمن هذا المكان"، أو كان يقول: "اللَّهمّ اجعل قبري بها".
وفي معرض ردِّه على سؤال آخر عن المقبرة، يقول السيِّد فضل الله(رض): "ورد في الحديث عن أحمد بن عمر رفعه عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: إنَّ أخي ببغداد وأخاف أن يموت بها، فقال: "ما تبالي حيث مات، أما إنَّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السَّلام"، فقلت له: أيّ وادي السّلام؟ قال: "ظهر الكوفة، أما إنِّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون".
وحيث إنَّه لم يرد تحديدٌ في هذا الحديث ونحوه، فإنَّ المرجع فيها هو عُرف أهل المنطقة، وبالتَّأكيد ستبقى مقتصرةً على المنخفض المشبه للوادي القريب من النجف الأشرف الَّذي يقال له ظاهر الكوفة، ولن يتَّسع إلى ما لا نهاية، بحيث يصل إلى مسافة بعيدة عن النَّجف، وبخاصَّة إذا صار لتلك المنطقة البعيدة اسم آخر في عرف أهل المنطقة، لصدق عنوان (ظهر الكوفة) عليه، وذلك حيث لا يوجد لوادي السَّلام بخصوصه تحديد شرعيّ أو جغرافيّ حاسم". [استفتاءات].
وقد استصرحنا فئةً من الشَّباب والشّابّات حول معرفتهم بمقبرة وادي السَّلام.. فقال محمَّد: "نسمع كثيراً ممّن أوصوا بالدَّفن هناك، وربما يكون تمرير الميت على المقامات المشرَّفة، هو السبب الرّئيس، في رأيي، لكثرة الدَّفن هناك".
أمّا رنا، فأجابت قائلةً: "أسمع أنّها أرض مقدَّسة، ودفن فيها علماء كثيرون، ولا أعرف عن الموضوع غير هذا، ولم أقرأ عنه تفاصيل أكثر"، فيما اعتبر صلاح أنَّ "مسألة الدّفن في مقبرة وادي السَّلام تأتي ضمن ميلٍ عقائديّ، بحيث إنّها من أعظم المقابر الثّلاث لدى المسلمين، وهي مقبرة البقيع، ومقبرة الحجون أو المعلّى، ومقبرة وادي السّلام"، مشيراً إلى أنَّ الدّافع إلى دفن الموتى في مثل هذه المقابر، هو مجاورة قبور الأولياء والصَّالحين.
علّنا نكون في هذا التَّحقيق المتواضع قد سلَّطنا الضَّوء على مقبرة وادي السَّلام وخصوصيَّة الدَّفن فيها.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا التَّحقيق، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.