خبر..
فيما يتضوَّر ملايين النّاس حول العالم من الجوع، وليس لديهم ما يسدّ رمقهم، يتمّ رمي ملايين الأطنان من الأغذية الصّالحة للاستهلاك في براميل القمامة، وهو ما يدفع بعض الدّول إلى سنّ تشريعاتٍ تجرّم مثل هذا العمل، كما حدث في فرنسا مؤخّراً.
بدأت فرنسا حملةً على إهدار الطّعام، بوضع تشريعٍ جديدٍ يحظّر على المتاجر الكبرى التخلّص من الطّعام غير المباع، ويعاقب المخالفين بغرامات كبيرة، وقد يصل الأمر إلى السّجن.
ووفق التّشريع الّذي أقرّ الخميس (21 مايو/ أيّار 2015)، في إطار قانونٍ أشمل بشأن الطّاقة والبيئة، يتعيّن على المتاجر الّتي تزيد مساحتها على 400 متر مربّع، توقيع عقودٍ بحلول يوليو/ تموز 2016، للتبرّع بالطّعام غير المباع، والصّالح للاستهلاك، إلى المؤسّسات الخيريّة، أو لاستخدامه في إطعام الحيوانات، أو كسمادٍ زراعيّ.
وتصل عقوبة مخالفة التّشريع الجديد إلى السّجن لمدّة عامين، وغرامة ماليّة تبلغ 75 ألف يورو.
وقال الاتحاد الفرنسي للتّجارة والتوزيع (إف.سي.دي)، إنّ من الخطأ استهداف المتاجر الكبرى فقط، والّتي يقول الاتحاد إنها تساهم فقط بأقلّ من خمسة في المائة من إجمالي الطعام المهدور.
وتقول وزارة البيئة الفرنسيّة إنّ كلّ مواطن فرنسيّ يتخلّص من 20 كيلوغراماً من الطعام سنويّاً، وهو ما تتراوح إجمالي تكلفته بين 12 و20 مليار يورو (13.4 و22.4 مليار دولار).
ولا يزال القانون الأشمل في حاجةٍ إلى تصويت مجلس النوّاب عليه في 26 مايو/ أيّار قبل أن يعرض على مجلس الشّيوخ.
وتعليق..
أراد الله تعالى للإنسان أن يعيش عقليَّة الاعتدال في كلِّ أموره الخاصَّة والعامَّة، وأن يتعامل مع حاجاته المادّيّة والمعنويّة بكلّ اتّزانٍ ومسؤوليّة، وبالشَّكل الطّبيعيِّ الّذي لا يخرجه عن الحدِّ المألوف والعاديِّ بحيث يصل إلى مستوى الانحراف، كما أراد له الانتفاع بما أعطاه من نِعَم، وألا يبلغ بذلك حدّ الإسراف بما ينعكس سلباً على واقعه ونفسيّته، بل أن يستفيد من كلّ ذلك بما يحقّق توازنه واستقراره.
وفي حديثه عن الإسراف والقصد، ووجهة نظر الإسلام في ذلك، يقول سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض):
"{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}.. فالله أراد للإنسان أن يأكل، لأنَّ الأكل حاجة طبيعيّة للجسد، ليستمرَّ في قوّته الّتي تمدّه بالحياة، وأراد له أن يشرب للسّبب نفسه. وإذا كان الأكل والشّرب مطلوبين من موقع الحاجة، فمن الطّبيعيّ أن تتقدّر الحاجة بالمقدار الّذي يحقّق الاكتفاء للجسد، لأنّ الزّيادة عنه تثقل الجسد بما لا يحتاجه، فيسيء إلى توازنه وقوّته. ولهذا جاء النّهي عن الإسراف في الأكل والشّرب، مراعاةً لجانب السّلامة في حياة الإنسان، وللحصول على رضا الله ومحبّته، لأنّ الله لا يحبّ للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعيّة لحاجاته في الحياة، بل يريد له أن يكون متوازناً في كلّ شيء، ما يجعل من الالتزام بذلك عملاً دينيّاً يقرّبه إلى الله، والعكس صحيح، لأنّ الإنسان ملك الله، فلا يحب أن يتصرّف أحد في ملكه بما يسيء إليه، سواءٌ في ذلك ما يتعلّق بنفسه أو بالآخرين. وهنا يكمن الفرق بين المبادئ الوضعيّة والتشريع الديني، فإنّ تلك المبادئ تترك للإنسان الحريّة في ممارسة حياته الخاصّة، بقطع النّظر عن نوعيّة الممارسة، بينما يؤكِّد التّشريع الدّيني ضرورة تقييد هذه الحريّة لمصلحة حياة الإنسان وحمايته من نفسه.
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وهذه قاعدٌة عامّةٌ تتجاوز مورد الآية إلى غيرها من التصرّفات الماليّة والعمليّة الّتي تعرّض الإنسان للإسراف، وتضعه وجهاً لوجهٍ أمام التزامه بالاعتدال من أجل الحصول على رضا الله، بينما يكون الإسراف سبباً في فقدانه لمحبّة الله سبحانه. وقد ورد عن الإمام جعفر الصّادق(ع) أنّه قال: «ليس في ما أصلح البدن إسراف، إنَّما الإسراف في ما أفسد المال وأضرَّ بالبدن».
وفي حديثٍ آخر ـ مما رواه سليمان بن صالح ـ قال: «قلت لأبي عبد الله(ع): أدنى ما نهي عن حدّ الإسراف؟ قال:إبذالك ثوب صونك، وإهراقك فضل إنائك، وأكلك التّمر، ورميك النَّوى ههنا وههنا».
وروي عنه أنّه قال: «إنّ القصد أمرٌ يحبّه الله، وإنّ السّرف أمرٌ يبغضه الله، حتى طرحك النّواة، فإنها تصلح للشّيء، وحتى صبّك فضل شرابك".
ونستوحي من ذلك، توجيه الفرد المسلم والمجتمع المسلم إلى أن لا يطرح شيئاً مما يمكن الانتفاع به، بل أن يعمل على الاحتفاظ به من أجل الانتفاع به على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ، فليس للإنسان أن يهرق المال من دون حاجة، أو يطرح النّواة من دون منفعة، فلا بدّ له من الاحتفاظ بكلّ الأشياء النّافعة في ذاتها، من أجل تحويلها إلى طاقةٍ مفيدة في إنتاج عناصرها الكامنة فيها لمصلحة الحاجات العامّة والخاصّة.
وقد روي، تعليقاً على الآية {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}، «أنّ الرشيد كان له طبيب نصرانيٌّ حاذقٌ، فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطّبّ شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان! فقال له عليّ: قد جمع الله الطبّ كلّه في نصف آية من كتابه، وهو قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}، وجمع نبيّنا(ص) الطّبّ في قوله: المعدة بيت الدّاء، والحمية رأس كلّ دواء، وأعطِ كلّ بدن ما عوَّدته. فقال الطّبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً». [تفسير من وحي القرآن، ج 10، ص 96- 98].